فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [28].
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني المشركين ومعبوداتهم للمقاولة بينهم: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي: معبوديهم بالله مع توقعهم الشفاعة منهم: {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤكُمْ} أي: الزموا مكانكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. قال القاشاني: معناه قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم، وتبرؤ المعبود من العابد؛ لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوُصَل.
ومعنى قوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي: مع كونهم في الموقف معاً، فرقنا بينهم، وقطعنا الوُصَل التي بينهم، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة، ولا من المعبودين إفادتها، لو أمكنتهم: {وَقَالَ شُرَكَاؤهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} إذ لم تكن عبادتكم من أمرنا، بل عن أمر الشيطان فكنتم عابديه بالحقيقة، بطاعتكم إياه، وعابدي ما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة، وأماني كاذبة.
قيل: القوة مجاز عن تبرئهم من عبادتهم، وأنهم عبدوا أهواءهم وشياطينهم؛ لأنها الآمرة لهم دونهم؛ لأن الأوثان جمادات وهي لا تنطق. وقيل: ينطقها: {اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: من الآية 21]، فتشافههم بذلك، مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [29].
{فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ} أي: لنا: {لَغَافِلِينَ} أي: الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا عبادتكم إيانا.

.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [30].
{هُنَالِكَ} أي: في ذلك المقام المدهش، حين قطع المواصلة، وإنكار الشركاء العبادة: {تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} أي: تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل، فتعاين أثره من قبح وحسن، ورد وقبول، كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليكتنه حاله، وهذا كقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] وقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9].
{وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} الضمير للذين أشركوا، أي: ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم، وأصول دينهم ومذهبهم، وتوهماتهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة. أي: ظهر ضياعه وضلاله ولم يبق له أثر فيهم.
وفي هذه الآية تبكيت شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً، ولم يأمرهم بذلك، ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة. والمشركون أنواع وأقسام، وقد ذكرهم تعالى في كتابه، وبين أحوالهم، ورد عليهم أتم رد.
ثم احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده بقوله سبحانه وتعالى:

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [31].
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} بالإمطار والإنبات وهل يمكن إلا ممن له التصرف العام فيها: {أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ} أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [الملك: من الآية 23].
{وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} يعني النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب {وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} كأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج المؤمن من الكافر أو الكافر من المؤمن {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} أي: ومن يلي تدبير أمر العالم كله، بيده ملكوت كل شيء، تعميم بعد تخصيص: {فَسَيَقُولُونَ اللّهُ} إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي: أفلا تخافون بعد اعترافكم، من غضبه لعبادة غيره إتباعاً للهوى.

.تفسير الآية رقم (32):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [32].
{فَذَلِكُمُ} إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله: {اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} الثابت وحدانيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال، أي: فما بعد حقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه، وعبادة غيره، انفراداً أو شركة: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي عن الحق الذي هو التوحيد، إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق كل شيء.

.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [33].
{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا في كفرهم، وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه. وقوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدل من الكلمة، أي: حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} تعليل بمعنى لأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ أفاده الزمخشري- أي: كقوله تعالى: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: من الآية 71]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19]، قيل: {الَّذِينَ فَسَقُواْ} مظهر وضع موضع ضمير المخاطبين للإشعار بالعلية، والفسق هنا التمرد في الكفر، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم، لتمردهم في كفرهم، ولأنهم لا يؤمنون، وهو تكرار. وأجيب بأنه تصريح بما علم ضمناً من: {الَّذِينَ فَسَقُواْ}، أو دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان.
ثم احتج أيضاً على حقّية التوحيد وبطلان الشرك بما هو من خصائصه تعالى، من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه:

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [34].
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه} أي: من يبدؤه من النطفة، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ويستعمله أعمالاً، ثم يحييه يوم القيامة، ليجزيه بما أسلف في أيامه الخالية. وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها، إيذاناً بظهور برهانها، للأدلة القائمة عليها سمعاً وعقلاً، وإن إنكارها مكابرة وعناداً لا يلتفت إليه، وإشعاراً بتلازم البدء والإعادة وجوداً وعدماً يستلزم الاعترافُ به الاعترافَ بها. ثم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يبين لهم من يفعل ذلك، فقيل له: {قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تصرفون إلى عبادة الغير، مع عجزه عما ذكر.
ثم احتج عليهم أيضاً، إفحاماً إثر إفحام، بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [35].
{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} أي: بوجه من الوجوه، كبعثة الرسل، وإيتاء العقل. وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر {قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} وهو تبارك وتعالى-: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} أي: يعبد ويطاع: {أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ} أي: إلا أن يهديه الله تعالى- نزل منزلة من يعقل لإفحامهم- وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه. وقد قرئ: {أمنْ لا يَهَدِّي} بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، أصله يهتدي، أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء، وقرئ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، لأنه لما نقلت الحركة التقى ساكنان، فكسر أولهما للتخلص من التقائهما، وقرئ بسكون الهاء وبتخفيف الدال، على معنى يهتدي والعرب تقول: يهدي بمعنى يهتدي. يقال: هديته فهدى، أي: اهتدى.
وقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب. أي: أي: شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم، فضلاً عن هداية غيرهم شركاء، وقوله: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} مستأنف، أي: كيف تحكمون بالباطل، حيث تزعمون أنهم أنداد الله؟!.

.تفسير الآية رقم (36):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [36].
{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} أي: في اعتقادهم ألوهية الأصنام: {إِلاَّ ظَنّاً} اعتقاداً غير مستند لبرهان، بل لخيالات فارغة، وأقيسة فاسدة. والمراد بالأكثر: الجميع {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ} أي: من العلم والاعتقاد الحق: {شَيْئاً} أي: من الإغناء، فـ: {شيئاً} في موضع المصدر، أي: غناء ما. أو مفعول ل- {يغني}. و{مِنَ الْحَقِّ} حال منه {إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وعيد على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن البرهان.
تنبيه:
قال الرازي في هذه الآية:
اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مطردة في القرآن. فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك، فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78]، وعن موسى عليه السلام مثله فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1- 3]، وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وروح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل: 64] أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم. وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة. أما الأحوال الروحانية، والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونة عن الكون والفساد.
فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية، ولاضطراب العقول وتشعب الأفكار كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده. والهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها، وعلى كل فقد بينا أنها أشرف المراتب، وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تعالى. وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضاً، وسفهاً صرفاً. فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.
ثم بيَّن تعالى حقّية هذا الوحي المنزل، رجوعاً إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزَل عليه، ودلائلها في آيات الله الكونية، والمنبئة عن عظيم قدرته، وجليل عنايته بهداية بريته، فقال تعالى:

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [37].
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ} لامتناع ذلك؛ إذ ليس لمن دونه تعالى كمال قدرته التي بها عموم الإعجاز: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: مصدقاً للتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد، وصفة النبي صلى الله عليه وسلم، و{تَصْدِيْقَ} منصوب على أنه خبر كَاْنَ أو علة لمحذوف، أي: أنزله تصديق الخ. وقرئ بالرفع خبراً لمحذوف، أي: هو تصديق الذي بين يديه. أي: وبذلك يتعين كونه من الله تعالى؛ لأنه لم يقرأها، ولم يجالس أهلها {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ} أي: وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: من الآية 24]، كما قال علي رضي الله عنه: فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} أي: منتفياً عنه الريب، كائناً من رب بالعالمين، أخبار أخر لما قبلها.
قال أبو مسعود: ومساق الآية بعد المنع عن إتباع الظن؛ لبيان ما يجب إتباعه.

.تفسير الآية رقم (38):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [38].
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: بل أيقولون. فـ: {أم} منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند الجمهور، والهمزة للإنكار، أي: ما كان ينبغي ذلك. وقيل: متصلة، ومعادلها مقدر، أي: أيقرون به بعد ما بيَّنا من حقيقته أم يقولون افتراء {قُلْ فَأْتُواْ بِسورة مِّثْلِهِ} أي: إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا، على وجه الافتراء، بسورة مثله في البلاغة، وحسن الصياغة، وقوة المعنى، فأنتم مَثَلٌ في العربية والفصاحة، وأشد تمرناً في النظم: {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: ادعوا من دونه تعالى، ما استطعتم من خلقه، للاستعانة به على الإتيان بمثله- إن صدقتم في أني اختلقته- فإنه لا يقدر عليه أحد.
قال أبو السعود: وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء، للتنصيص على براءتهم منه تعالى، وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه.
وقوله تعالى: